“زمن النشرة”

0
  • رشيد الكامل

لست أدري كيف جرفني الحنين في غسق هذه الليلة، إلى عدد قديم من جريدة “النشرة “، الجريدة الأسبوعية التي كنت مدمنا على قراءة صفحاتها في مراهقتي، أيام دراستي بثانوية مولاي رشيد، هناك بين وهاد قرية أجلموس، في قلب جبال الأطلس الشامخ.

أتذكر في ذاك الزمن المنفلت من الذاكرة، لم يكن الهاتف المحمول موجودا أصلا، لا ذكيا ولا غبيا، كانت لهفتي كبيرة لانتظار صبيحة كل اثنين، لقصد الكشك الوحيد بالقرية لاقتناء عدد جديد من معشوقتي ،جريدة النشرة، التي كانت نافذتي على العالم، لا أنكر أن هذه الجريدة ساهمت في تشكيل وعيي، إذ كان لها دورًا كبيرًا في تشبعي مبكرا بالفكر النقدي وتحطيم كل البديهيات التي كانت تُلقنها لنا ببيداغوجية بضاعتنا ردت إلينا، دون تربيتنا وتدريبنا على مهارات التحليل والنقد والتركيب، حيث كان الحفظ هو مركز العملية التعلمية.

في تلك الفترة الذهبية، أتذكر أنني كنت أجمع طيلة الأسبوع ما يجود به علي أبي من نقود صفراء، لكي أشتري أي عدد جديد من جريدة كانت ملهمتي، في زمن بعيد كان لص القراءة يطاردني، ولعنة الكتابة تغريني، تاركا التمارين الى أخر لحظة قبل دق جرس الدخول. كان ذلك جزء من حكايتي الجميلة مع المقروء الذي ترسخ في المخيلة ،لا أنكر وأنا الأن في الكثير من اللحظات عندما أدبج مقالا أو أكتب نصا تتمنع الكلمات وتهرب مني فأستنجد بذلك المخزون اللغوي البعيد فيكون المنقذ، هذه الحالة تكررت مرات عديدة .

طبعا وأنا أقوم بهذا “الفلاش باك” لن أنسى تأثير أستاذنا الكبير سي بوشتى الذي كان يدرسنا اللغة العربية في الباكالوريا، لم يكن مدرسا للمقرر فقط، بل كان يعلمنا الحياة وفن العيش، كان يفتح أقواسا كثيرة، أعتقد أغلقت مع هذه المناهج الدراسية التافهة التي ابتليت بها مدارسنا الباردة جدا .

لا يمكن لي أن أتذكر زمن “النشرة” دون ذكر أصدقاء الدرس بين وهاد قرية اسمها أجلموس، وخاصة م. الخطابي الذي كان يجود علينا كل جمعة بقصيدة بلغة مولير، وبطلاقة قل نظيرها، ولن أنسى كذلك جواد أفطول الفيلسوف الذي سبق زمانه، من كان يرمي المراجع في وجه أستاذنا وهو ينافح عن أطروحته، كان مخالفا للجميع وممتعا في نفس الوقت .

أعترف، بكل صراحة لا يمكن لي تصفح أعداد هذه الجريدة التي شكلت جزء من تفكيري في مرحلة كنت فيها متمردا على كل ما هو نمطي، دون أن أتحسر على زمن جميل، أمام هذه الهجمة الشرسة للعولمة التي أفقدتنا العديد من الأمور الجميلة، تبقى هذه الوثائق عزاؤنا الوحيد في زمن هذه التفاهة الاعلامية التي تبحث عن “البوز”، صحافة الفضائح والتشهير..

بكل فخر أقول اليوم، جريدة “النشرة” كانت مدرستي الأولى في رحاب صاحبة الجلالة التي ذهبت إليها عاشقا، في مقابل ذلك يستفزني سؤالا مؤرقا، هل جيل الفيسبوك وتويتر يقرأ الجرائد الورقية ؟…