محكي قصير لمحمد باجي: “الشمتة”

0
  • محمد باجي (°)

    تمدد في غرفة مليمترية ضيقة في أحد أيام غشت الساخنة، تقلب يمنة ويسرة ولم يجد لنفسه المكتظة راحة، وهو يتصبب عرقا، ثم استنهض ما تبقى من قواه الخائرة وهو يجر دفة الباب الخارجي بقوة تاركا وراءه جهنم منزله الضيق المحشو بين مئات المنازل الشعبية دون أن يجد حتى قليل من النسيم إليها طريقا.

    قصد المعتوه، الذي لم يعمل بوصية أبيه، أقرب محطة تتجه العربات منها رأسا نحو منتجع شرقي غاية في الجمال، حشر نفسه داخل عربة “بيكوب”، كما عشرات الشباب الذين يهربون من حر وقيظ المدينة وإسمنتها المسلح، قاصدين الجنة الشرقية ومنابع المياه العذبة وأرض الفاكهة الطازجة،

    وبينما اقترب من النزول في الوجهة التي كان يقصدها تراءى له الفدان المربوع الذي تخترقه سواقي وتتخلله عيون، وترتدي بعض أجزائه أشجار مثمرة قد صار جنة فيحاء تشخص فيه عمارة صغيرة مبنية بإتقان، فدار رأسه وهو يستعيد ذكريات طفولته التي باعها لمالك جديد بأبخس الأثمنة، دار رأسه وهو يلعن اليوم الذي لاقاه فيه السمسار مسعود بالمالك الجديد ليبيع له الفدان الذي ورثه عن أبيه ولم يعمل بوصيته المتمثلة في حفظ الملك لقيمته ورمزيته …..

    لقد كان على الأقل سينفض عباءة الحر والقيظ في البيت الطيني الذي لم يعد له أثر الآن لو لم يبع الفدان… أحس  ب “الشمتة” وهو الذي لم ير في المدينة يوما سعيدا منذ ترك القرية الشرقية تاركا وراءه خلاصه…

    تسمر في مكانه بعدما رمت به العربة وطاوع حديث نفسه محموما:  رباه ما الذي فعلته؟ كيف لف بي كل هذا التهور وأنا أبيع ملك أبي الذي حصنه لسنين نقلا عن جدي وأسلافه ببضعة ملايين لم أر مذ أخذتها يوما أبيض؟، رباه كيف لي أنا المعتوه المستهتر أن أغتر بطيش الشباب وأنا أصرف ملك أبي قبرا ضيقا وقوارير خمر وليالي حمراء وها أنا ذا اليوم أقفل بعد سنتين تماما إلى حيث رسمت حتفي في ذلك اليوم الملعون؟.

    كان “المشموت” قد وضع رأسه بين يديه وجبهته تتصبب عرقا غير قادر على الخروج من الدوامة التي لفته… كيف له أن يخرج منها وهو يرى قصر سعد كان بالأمس له وصار اليوم غريبا عنه.

(°) فاعل مدني وتربوي