قصة قصيرة: ابتسامة في وجه الموت

0
  • عبدالله أعدي (°)
  1. في الحياة، بعض الأقدار تخطئ العنوان..

شريفة، أعرفها لأنني أعرف كيف تنبت الزهور البرية على قمم الجبال وبين شقوق صخوره الصماء تنبثق وتتمايل في عزة مع هبوب نسمات الرياح الشتوية، أعرف صاحبة الرابعة والعشرين سنة، أعرفها كزهرة عباد الشمس تستدير حيث النور دوما، تدرك أن البؤس شيء ضعيف حين ترى ابتسامتها السعيدة رغم الفقر ورغم الحاجة فتقول إنها فقط ابتسامة تقلب موازين الحياة وتقهرها..!

نحن في الحقيقة ننظر دائما إلى كم الثمار التي في الشجرة ولا نهتم لما يحمله الغصن من ثقل! هي كانت ذلك الغصن الذي تحمل ثقل تلك العائلة، أمها المسنة التي انحنى ظهرها وذهب نظرها لفرط ما انكبت على ماكينة الخياطة والأثواب، أختاها اللتان تصغرانها في السن كانت لهما القدوة والمعين، الأب، الأخ والصديق وقت الضيق، تماما كمن يضع ستائر فخمة من الحرير المرصع بالنقوش الذهبية على نافذته المخلوعة والتي تشقق خشبها وذهبت ألوان صباغتها، هي هكذا في ذلك البيت المتواضع على تلك الهضبة ترى نوره في المساء كنجم الشمال في السماء شامخا من بعيد..

كيف تختار تلك الأشياء التي تزين بيتها وعالمها الخاص، والتي لا تتناسب أحيانا مع بيئتها ومعيشها، كتلك الكرة البلورية التي بداخلها رجل الثلج تضعها دائما على طاولتها الصغيرة، أو مجموعة أحجار لامعة مرتبة بعناية داخل مستطيل خشبي يكسوه زجاج شفاف، يبعث فيها الأمل مع كل صباح حيث تهم وتلملم أغراضها في عجل تضع الخيط القطني بين صفحات كتاب تنوي العودة إليه في المساء..

ثم تأخذ محفظة نقودها تفتحها وتتفقد ما تبقى في أحشائها، وتضع بعض القطع النقدية التي تكفي مصروف اليوم على الطاولة، تأخذ من درجها مذكرتها الخاصة ذات الغلاف الجلدي، فهي اعتادت أن تكون معها في كل مكان تذهب إليه، تلك المذكرة بالنسبة إليها هي نوافذ الروح هي كلمات عابرة وأحلام مؤجلة، تسافر عبرها لعوالم تبدع في تطريز تفاصيلها..

فبغرفة الجلوس وجدتهم متحلقين حول مائدة الفطور، تلك التي لم تسمح لها العجلة يوما أن تشاركهم الطعام، سوى من رشفة قهوة أخذتها وهي واقفة على عجل، أتبعتها بقضمه كبيرة من كسرة الخبز الساخنة التي أعدتها أمها، مضغتها بضع مرات لتبتلعها بصعوبة دون حتى أن تتذوق طعمها ثم سارت نحو الباب لتخرج ثم تداركت لتعود بضع خطوات للوراء، تمرر يدها على ماكينة الخياطة وهي تقول لأمها بنظرة حاسمة: هذه مكانها قبو سفلي مظلم حتى لا تجلسي عليها مجددا، سوف أجد لها مكان آخر، أكملت جملتها تلك وانصرفت دون حتى أن تسمع الرد..

على ذلك الطريق الزراعي غير المعبّد تسير مسافة ميلين لتصل إلى مفترق طرق، حيث تجد النقل القروي المزدحم كما تسميه بدل “النقل المزدوج”  في انتظارها لينقلها الى البلدة المجاورة حيث تعمل في مكتب البريد، لطالما حلمت أن تصبح مهنتها “ساعي بريد”، لترى بتمعن ذلك الانطباع الأول للذين يستلمون الرسائل منها وهم يقرؤون أسماء من أرسلوها لهم، فهي تعشق الرسائل وأحيانا كثيرة في عملها كموظفة في مكتب البريد تمسك بالأظرفة تتحسسها تتمنى لو تفتحها ثم تبدأ بالتخمين، في قرارة نفسها تتساءل: ماذا بداخلها؟ ترى أهي رسالة حب أم هو مغترب ألهبه الحنين والشوق إلى الديار؟ هو عالم من الفضول والتصورات تعيش فيه كل يوم..

  • 2  في الحياة، لا قواعد للفصول ويأتي الخريف فجأة…! “

ذلك المساء في طريق عودتها الطويل، غابة من أشجار الزيتون، تلك التي كبرت معها وتعرف كل أشجارها، كما تعرف ظلالها، فهي لطالما نسجت أحلاما طفولية تحتها، واليوم على غير العادة تشعر أنها موحشة! أصوات نباح الكلاب من بعيد كأنها جرس إنذار يزكّي حدسها أنه هناك شيء ما مريب! أسرعت الخطى وهي تتلفت خلفها لتلمح شبح طيف يتعقبها من بعيد ويسرع للحاق بها..

أحست بأنفاسها تتسارع وقشعريرة تسري في كامل جسدها حين أدركت غايته منها، تراءى لها ذلك الشبح بوضوح وقد اقترب، جسده ضعيف كأنه ذئب هزيل فتك به الجوع، بشرته السمراء كثعبان ألف الجحور، تركض وتركض مسرعة وذو العينين الصغيرتين اللتان تتقدان رغبة كعود ثقاب يلاحق أثرها في إصرار كطير كاسر فتح مخالبه متوعدا إياها بالافتراس..

تعثرت لترتطم أرضا كقطرة مطر من السماء تعرف أنه ما من عودة للارتفاع، في تلك اللحظة استدارت في مكانها لتجده واقفا عند قدميها، حينها فقط أحست بطعم قطعة الكسرة التي ابتلعتها صباحا في فمها تستشعر لذتها ومذاقها العجيب، وتراءت لها صورتهم حول الطاولة! تقاطرت عليها أسئلة بسرعة البرق: لما لم أجلس معهم ؟ لما لم أُقبّل خد أمي وأعانقها ؟ ولما لم أضحك معهم وهم يتشاركون الطعام… ؟

 استفاقت على قبضته القوية التي تحاول نهشها لكن تمسكها بالدفاع عن أنوثتها البريئة كانت أقوى منه، حاول ذلك الذئب الجائع لكنها ولأول مرة تتحول من زهرة برية الى شجرة صبار تنشر أشواكها الحادة في وجه المعتدي..

استشاط غضبا وبلا تفكير أو تردد سحب سكينه من جيبه وسدد لها طعنة غادرة في الصدر كانت نافذة جعلت دماءها الحارة تتدفق في غزارة كطير عرف باب الحرية أخيرا..

نهض عنها يلهث وقد فشل في بلوغ غايته الدنيئة، تأملها قليلا وهي جسد بلا حراك ثم انتبه إلى حقيبتها تماما كأحد الضباع حين يبحث بين الجثث عن عظم يعضه ويسلّي به جوعه، هاتف وكيس نقود هزيل، رمى حقيبتها بعد ذلك بعيدا ثم أمسك بإحدى ساقيها ليجرها وغايته أن يرميها في بئر قريب لتختفي جريمته عن الأنظار، وما إن حركها حتى انسدلت خصلة من شعرها لتكشف له عن ابتسامة بديعة رُسمت على محياها..! انتفض فزعا كمن لدغته عقرب سامة ولاذ بالفرار حاملا معه ذلك الذنب وهو غير مصدق كيف يبتسم من يذوق الموت بأبشع صورة!!..

ابتسمت في وجه الموت حين أدركت أنها عاشت شريفة وستموت شريفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(°) قاص، تربوي، وفاعل مدني، من أعماله “ملاهي الجحيم”..