محكية قصيرة: عندما كبرت الطفلة الصغيرة
- مالكة حبرشيد (°)
على وسادة الأرق .. كبرت الطفلة الصغيرة ، والفصول تقلم أمانيها العذاب ، حتى صارت مدببة ! كلما حاولت احتضانها ؛ نكزتها ، وسال الدم مدرارا من صدرها.
نشط الفضول ، تحرك بداخلها؛ فارتمت بمحض براءتها، في أحضان الكتب والمجلات والجرائد، تقرأ بنهم وشهية، من يأكل أفضل الأطعمة بعد جوع شديد، لتكتشف أن العالم ليس هو مدينتها الصغيرة المنكوبة، المهمشة ، المنسية، بل هو أكبر، وأبعد حدودا من جغرافية الجبال التي تحد خنيفرة ! كأنما تحاصرها من كل الجهات كي لا يعرف أبناؤها، ما يجري خلفها !
عرفت أن جبل “تباينوت”.. هو معقل الجن، وعاصمتهم الكبرى؛ حيث يجتمعون .. للتداول، والتشاور، وإصدار الأحكام ؛ بحق كل من تجاوز حدوده ، بصب الماء الساخن في المجاري ، أو دخول المرحاض عند منتصف الليل، أو سماع الموسيقى الصاخبة وإزعاج صغاره النائمين !
وبحكم وجود أخوال أمي عند سفح الجبل .. زرت المنطقة برفقتها عدة مرات… كنت أمشي بحذر شديد ؛ كي لا أدوس نملة، أو أجرح عشبا ؛ فكل أولئك أبناء وأحفاد الجن .. كل واحد يتجلى بالهيئة التي يختارها !
جلت كثيرا هناك، أبحث عن جني، ولو صغير؛ يفك اللغز المحير في رأسي – الذي أثقلته الحكايات – لكني لم أعثر لأحد منهم على أثر؛ هكذا يتمدد الخيال والجهل، ويتقلص الواقع والعلم . من اختار هذه المعادلة .. يدرك جيدا أن اكتشاف عالم الجن خطر يهدد انقراضه وزواله ؛ فلابد إذا من استتباب الجهل، وتناسل الفقر؛ حفاظا على المملكة، وأبنائها البررة .
هذه البقعة من العالم، حيث تكثر الكنوز التي لا تكشف عن مواقعها إلا للراسخين في تضليل الشعوب وتجويعها، البارعين في تعاويذ الرقية؛ تخليصا للناس من أحلام، كلما ساورها الخروج إلى النور؛ اهتز ساطور الظلم، لتظل طي الكتمان ؛ كيما تصيبها وعكة وعي، تقودها نحو عالم الظلمات والأقفال !
كبر رأسي، وكبرت فيه القضايا ، طالت أطرافي، وامتدت المستوطنات الإسرائيلية، تجاوزت أفكاري جبال الأطلس؛ لتصطدم بحروب الشرق الأوسط، نفاق القومية العربية، تواطؤ الأمة الإسلامية، أحقاد الطوائف والأحزاب والجمعيات الدائبة على هدم الإنسانية !
انخلعت كلي من الساس إلي الرأس، لتتشكل خارطة العالم بالأحمر القاني؛ هكذا شاء الساهرون على سلامة الكراسي، الدائبون على تكريس المآسي، الخاضعون لكل الأوامر والنواهي؛ كي يصير للكراسي جذور ضاربة، واغصان فارعة؛ تضمن استمرار الطغاة، وتركيع العصاة!
ليتني لم أغادر ضفاف أم الربيع، ليت حدود العالم لم تتجاوز تراب خنيفرة الأحمر، وليتني لم أدرك يوما أن مصر أم الدنيا قد أصبحت زوجة أب حاقدة، وأن مكة طلقها الإسلام بالثلاثة، وأن سوريا الحضارة قد أصبحت لاجئة، واليمن متسولة، وعراق العلم توزعته المفارق، والمغرب الكبير حلق الغرب شواربه؛ ليصير غانية ترقص على جراحها، لتكسب ريالات تطعم أبناءها الجياع !
ليتني لم أعرف معنى الانتماء والهوية، ولم أقرأ يوما تاريخا ولا جغرافية؛ فبعض الجهل رحمة، يقيك حمى الأرق، ونزيف الحمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(°) شاعرة مغربية، من دواوينها “بين القصيدة وحزن الناي”، “زهرة النار” و”قصاصات من منفى الكلمات”