محكية قصيرة: البغريرة الشقراء المعسّلة

0
  • حسام الدين نوالي (°)

قبيل أذان المغرب، كانت السماء تبدو من النافذة رماديةً، وأنا ممدد قريبا من المائدة الدائرية الوطيئة، أتكئ بمرفقي وأضلعي معا على المخدة التي تصبح -بفعل ثقلي وحركاتي المتكررة- مبعّجةً تكاد تشبه حبة كمثرى فاسدة تقريبا.

المائدة تنعكس عليها إضاءات التلفاز المقابل، فتبدو كما لو أن لونها يتغير باستمرار، فيما موسيقى الراديو في المطبخ مخلوطا بصفير طنجرة الضغط ومقاطع الإشهار على التلفاز تتداخل كلها فلا تكاد تسمع نغما محددا، كما لو أنك -بالضبط- داخل ملهى رمضانيّ.

التفتُّ بسرعة. البرّاد الذي يجلس هناك في الركن القصي، بكرش مدورة، ورأس أصلع، يثني يده على الخصر، فتبدو بشكل مثير ساعتُه الثمينة وسواره الذي يتناغم مع إطار نظارتيه، يتبختر في هيبة وسحر، ويحاط بعصابة مستعدة لكل الاحتمالات، يتفرجون جميعا على الشباكية، ويفغرون أفواههم الكبير.

الشباكية في الوسط تماما، تتلوى بتلذذ مبالغ فيه، وتنزع عنها الزنجلان حبّة حبة. وأضواء التلفاز تخفت فتكاد المائدة كلها تغدو ضبابية، ثم تتوهج بألوان متقافزة تجعل العين “تتكركش“.

البغريرة الشقراء المعسّلة غير بعيدة، والبراد يعرف حتما أنها مثقوبة، فيمد أنبوبه بشكل فظيع اتجاهها، وأنا أتأمله بارتياب كبير وانتظر.

يا إلهي!

تمَراتٌ سمراواتٌ نازحات من الجنوب، يتجمّعن بشكل غير أنيق. لا يتحدّثن كثيرا، لكنهن ينظرن مرةً ناحية الشقراء النحيلة، فيوشوشن ويضحكن بهمس؛ أو ناحية لْبْريوَة البدينة، فيتغامزن حول لباسها الذي يلفها كليا، وحول ردفيْها المفضوحين جدا. وتقول إحداهن:

مابقاتش الثقة آ لبنات!

ثم يضحكن بهمس.

والبغريرة تخفض رأسها كثيرا، وتشعر بضيق لدرجة أنها تتصبب زيتا وعسلا ولا تنظر جهة البراد الفج أبدا.

كنتُ متحرّجا للغاية، أتظاهر بعدم الانتباه، وأنظر (بنصف عين) متوقعا كل شيء، ومتأهبا للتدخل في أية لحظة.

زوجتي في المطبخ تحاول جاهدة فتح طنجرة الضغط دون جدوى، وتناديني. صارت تشعر بتوتر بالغ مع اقتراب الأذان، وتناديني بصوت أعلى، وبعصبية. وأنا بما أستشعره من الواجب الأخلاقي تجاه البغريرة لا ينبغي لي أن أتركها عزلاء دون حماية.

النساء عادة، يعتقدن أننا غير مبالين بحجم التعب الذي يتحمّلنه في رمضان، والحقيقة أنهن لا ينتبهن لحجم العُمق الذي ننظر به للعالم، وهذا وحده كافٍ كي نحمي أنفسنا ونحمي كل ما حوْلنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(°) قاص وناقد، من أعماله “العقل الحكائي: دراسات في القصة القصيرة بالمغرب” ومجموعة “الطيف لا يشبه أحدا”..