خاطرة: فْـــلاشْ بـَـــاك

0
  • عبدالإله بوزين (°)

عشتُ ما يكفي لفقدان الذاكرة بصفة نهائية. ما يحدث هو تكبد محاولة استحضاري لمرحلة الطفولة حين كنا نرسم دوائر على التراب فيدخل اثنان منا لحرب دامية وسط ما سَيّجناه من قبل، فيتبادلان الركل والرفس بطريقة عشوائية لا تحمل أي نوع من فنون القتال، لتنتهي المعركة برفع دراع أحدهما كبطل لهذه الأخيرة.

أستحضر بمشقة النفس تلك اللحظة التي كنت أعتلي فيها مرتفعاً ما وأطلب من باقي الرفاق مهاجمتي وإرغامي بالنزول من أعلى القمة حيث كنت بطلاً شرساً أصارع وأقاتل بكل عنفٍ وفروسية. إنها مرحلة طفولية مرسخة بداخلي لا يمكنها الانزلاق من ذاكرتي رغم مثالب الدنيا وعدم القدرة على الاحتفاظ بالتجارب السابقة واستحضارها.

أحنّ بإدغام النون ورفعها إلى تلك الطفولة البريئة، وإلى زمن كنت لا أكاد أستلقي فيه على السرير حتى يسرقني النعاس. أحن بعنف شديد إلى زمن سباق الدراجات، والركض، والسباحة في الماء العكر بقنطرة “واد سيكسو”. أحن إلى مرحلة زهقت من بين أصابعنا، ولم يتبق منها إلا جزء لحيز مرسخ بالذاكرة لا يفارقنا أبد الدهر الآن صار كل هذا عيبًا علينا لا يمكننا ممارسته لأننا تقدمنا في السن وصرنا شيوخ هذا الزمن الباهت، فأي نوعٍ من البشر نحن؟ حتى لا نقدر على إخراج الطفل الصغير الذي يسكننا.

نشيخ بعمر الثلاثين ويكسونا الشيب والانكماش كأن أعمارنا تجاوزت سبعة عقود.، أي الأقوام نحن الذين نعيّب كل شيء ونتّبع سنة الأولين بلهجة صلبة “راك شرفتي ومزال باغي تلعب”، نقتل الفن ونصلب الرياضة في وقت مبكر بدعوى أن الكبار عيب عليهم ممارسة أشياء كتلك التي سلف ذكرها، وكل ما يحق لهم فعله هو الكدح والمكابدة طيلة العمر.

هنالك بالجانب الآخر، أرى أناساً مثلي يرفضون استخراج ذاك الطفل الذي لطالما أراد أن يرى النور من جديد، لأن المجتمع يراه مجرماً يحق شنقه وشيطاناً يجب رجمه. يكبحونه خوفاً من نظرات أولئك الذين هم على الرصيف جالسين بعينٍ حاقدة يبصرون، وبفاه قذر يتنمرون.

أعرف حجم الشعور الذي يحسونه حين يُعاب عليهم كل شيء، وما الذي لا يعاب في مجتمع أضاع هويته، هو الادعاء بما لا يسكن دواخلهم (تلميع الصورة). لحية طويلة وجلباب أبيض والتسابق للصفوف الأمامية يوم الجمعة، لا لشيء غير أن يصنفواْ مع الراكعين، ليس إرضاءً للرب بل خوفاً من المعيّبين.

لا أرى أن الحياة ستعاقبنا بشيء أبشع وأسمج من هذا التكلف والتصنع، هذا الأخير أعتبره عذاباً نفسياً يقتل صاحبه قبل أجله. فإذا كنت إنساناً فلا تخشى كلام الناس بل اخشى رب الناس، وما دمت لا تعصيه فاستخرج كل ما يسكنك ولا تقتل نفسك قبل الأوان.

(°) قاص