إغرم أوسار، الموقع الأثري العالق بين واقع التهميش ومطالب المحافظة والتأهيل

0
  • محمد نوري (°)

إن التراث المعماري الأصيل، المتشكل من القصبات والقصور، يمكنه أن يكون جزءً من التراث الوطني، ولو على هامشه بؤر التهميش والنسيان، هو حال المجالات التي بزغت منذ فجر التاريخ، خاصة عند عصور التاريخ الوسيط، على الأقل منذ القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر ميلادي، وموضع المنجم عبارة عن تلال مرتفعة بين هضبتي مريرت وتاندرا (1)، فما كان منا إلا المزيد من البحث والتنقيب حول تاريخ طواه عدم الاهتمام بالمواقع الأثرية.

وحكم ذلك أن المعايير اختل توازنها، فكيف يمكن أن نتصور، بأي حال من الأحوال، أن مجال أيت اسكوكو (إقليم خنيفرة) غامر بتراث وموروث لامادي أصيل، متواجد بيننا ولا نبالي به، وهو أماكن عبارة عن أطلال يسميها السكان المحليون ب “إغرم أوسار” أو معدن عوام، وعن بقايا أسوار ممتدة على طول 2200 متر، وعلى مساحة تقدر ب 26 هكتارا، وهي مدينة عتيقة وفق النقوش الصخرية ومجمل الحفريات المسجلة، ومرد ذلك أن المدينة خلال عهد الموحدين كانت اقتصادية، ولا زالت كذلك إلى حدود يومنا هذا، حيث عرفت حفر أبار للتنقيب على المعادن كالذهب والفضة، وكذا بقايا من مسكوكات معدنية من أصناف متنوعة ومتعددة، بالرغم من تهدم البقايا الأثرية وتخريبها لأسباب عدة.

وفي هذا المنوال تشير السجلات والوثائق التاريخية أن المدينة شيدت منذ 1800 سنة قبل الميلاد وعرفت كمدينة منجمية محاطة بأسوار عتيقة، وتسمية معدن عوام ترجع إلى المدينة حين كانت تغمرها المياه، وكانت المنطقة تُعرف في العصر الوسيط باسم “فزاز” (قلعة فزاز) التي كانت عاصمة سياسة بالأطلس ومهد حضارة كبيرة في عصر امتد بين المرحلة الإدريسية و المرابطية، وهناك من يربط بين قلعة “فزاز” و”فزاز معدن عوام” كعاصمة اقتصادية تابعة للقلعة، ومن يعتبر أن أواخر فزاز شكلت ملاذا وقاعدة للثوار كهادي بن حنين وسلامة بن حمام الصنهاجي، هذا الأخير إذا لم يأمر بتخريبها يُرجح أن تكون واحدة من القلاع التي أحرقها عبد الله بن إسماعيل أثناء مروره من مراكش لفاس.

والمؤكد أن نهاية هذه المنطقة كانت بالدك والحرق، وهناك مصادر تحدثت عن الأمير المحروق فربما يكون الرشيد، وهذا لغز من بين الألغاز المحيرة.. ” (2)، وقد ذكرها حسن الوزان، في القرن السادس عشر، ووصفها بأنها كانت في غاية التحضر والعمران، تزينها منازل وحدائق جميلة يتردد عليها أناس كثيرون، وفي شكلها تشبه قلعة عسكرية تتخللها أبراج في أشكال مختلفة، وهناك جزء من برج مندثر لم يتبق منه سوى الحطام بحيث تراكمات الزمن المناخ أدى به الى التهشيم، تغزوه ثقب كانت مكانا للتسقيف بالخشب، بحيث لم تكن وظيفة للدفاع، بل كانت تؤدي وظيفة السكن.

وتعد الثروة المعدنية من بين الأسباب الرئيسية التي دفعت الفرنسيين إلى التفكير في الاستيلاء على تراب آيت سكوكو نظرا لما يزخر به من ثروات معدنية (3)، واعتبرت معدن عوام عاصمة اقتصادية للمنطقة لغناها ونفاسة معدنها، ولتحويل الأطماع عنها أحيطت بسور عظيم اندثر جزء كبير منها، وبلا شك أن المدينة كانت تؤدي أدوارا اقتصادية نظرا لتوفرها على معادن كثيرة ساهمت في ترويج اقتصاد المنطقة، ولو بشكل يؤثر على ضخامة الموقع الأثري، ويكتسي منجم عوام أهمية خاصة على مستوى إنتاج الرصاص الذي كان يصل إلى 230.000 طن سنويا، كما أن الفضة المستخرجة من المنجم تستعمل في سك العملة، وصناعة الحلي وزخرفة الأسلحة (4).

في إطار الأبحاث التي اشتغل عليها أساتذة باحثون وأركيولوجيون اعتمدوا على أساليب وآليات لدراسة الحفريات وتفسير أو تبيان نوعية المعادن، والمنقوشات الصخرية، بغية معرفتها تاريخيا واقتصاديا، فقد كشفت التنقيبات عن بقايا دور كثيرة ومساكن محصنة، وعن أطلال قصر شامخ كان في الغالب للسلطان، والذي شكل منطلق البحث والتنقيب، وذلك لموقعه وشكله المختلف لما كانت عليه بنايات المدينة، وفي خضم أعمال تنقيب قام بها باحثون من مختبر الأبحاث الأركيولوجية للمعهد الوطني لعلوم الأثار والتراث، سنة 2014، في إطار اتفاقية تعاون ثقافي، تأكد أن الموقع هام للغاية نظرا لموقعه الاستراتيجي وأدواره الاقتصادية، واعتباره بالتالي موقعا أثريا له مميزاته ومواصفاته، فيما تم اكتشاف ما يفيد أن دار السلطان أخذ برجه السكني موقع الوسط لتحصين السلطان وحمايته.

ومن زاوية أخرى، قادت دراسة الحفريات الأثرية التي قام بها الباحثون إلى اكتشاف باب رئيسي لمعدن عوام، ومكون من قوسين ومتشكل من أحجار مهجورة ترجع إلى العصر الموحدي، وقوس مستدير الشكل ومكتمل بعمق يمتد إلى أربعة أمتار، كما جرى العثور على لقى أثرية عبارة عن قناديل وقطع فخارية ومعدنية مختلفة الأشكال والألوان، كما اتضح، من خلال التنقيب في بعض المخلفات، أن “العمال كانوا يستخدمون الفؤوس والمطارق، وربما استعانوا بالنار لتكسير الصخور الصلبة، فيما تم استعمال دعائم خشبية لتفادي الانهيارات الترابية، وكذا الاستعانة بسوان لإفراغ المنجم من الماء حين كانت عوام غنية بالعيون، أما ما يمكن فهمه من بقايا الأفرنة، والمصافي الموجودة بجوار عوام، مرده إلى استعمال الفحم الخشبي في عملية تحويل الانتاج، والمنطقة آنذاك كانت غنية بأشجار الأرز (5).

لم تقتصر مدينة عوام على الانتاج المعدني وعمليات التحويل والزخرفة فقط، بل أدت أدوارا أخرى تمثلت في القوافل التجارية القديمة وعرفت بها بفضل موقعها الذي يربط الجنوب بالشرق الأوسط والسواحل المتوسطية، وأنشطتها الفلاحية والرعوية التي تسمح بها تضاريسها، وظل النشاط المعدني الأكثر اشتغالا الى حدود اليوم.

من خلال البحث والتنقيب الأثري تتم ملامسة أركيولوجية المنطقة باعتبارها مدينة منجمية، خضعت للكثير من العصور والأحداث، بما فيها ما يؤكد أنها كانت ملجأ للسلطان وعاصمة اقتصادية تعتمد على استخراج المعادن، ومركزا مهما للقوافل التجارية، قبل أن تصبح المنطقة اليوم عبارة عن أبراج تآكلت جوانبها وتصدعت من كثرة التنقيب عن الكنوز والمعادن على يد المارة والباحثين عن الكنوز، وتعرض أجزاء كبيرة منها للخراب، ولا أحد لم يصب بالصدمة إزاء حالة هذه المدينة التاريخية التي كانت مهدا للحضارة والتمدن فتحولت إلى مدينة معرضة للانتهاك والاستغلال البشع داخل حرمة أثرية تعتبر موردا ترابيا هاما.

ومن خلال تحقيقات اعتمدها برنامج “أمودو” مع باحثين متخصصين في الأثار والتراث اللامادي، كان أحد المتدخلين قد عبر عن استغرابه من التحولات المجالية التي مست مجال اغرم أوسار كمعلمة تاريخية ومورد تراثي عريق، وأكد على ضرورة حماية ما تبقى من حفريات المنطقة عبر ما تتطلبه المحافظة من توثيق وصون وتأهيل، مع العمل على ادراج المنطقة ضمن التراث الوطني، علما “أن الدولة المغربية حرصت، في السنوات الأخيرة، على تحيين ترسانتها القانونية المتعلقة بحماية التراث والتي تشكل ان هي تم تفعيلها إطارا مرجعيا وأداة فعالة لرد الاعتبار للتراث الوطني” (6).

فمنذ سنة 1912، تاريخ توقيع عهد الحماية الفرنسية على المغرب، سارع المقيم العام الجنرال ليوطي إلى وضع القوانين لتنفيذ تصوره بخصوص التراث الوطني، وهكذا أصدر ظهير 26 نونبر1912 (7)، والمتعلق بالمحافظة على المعالم التاريخية والكتابات المنقوشة، وبأهمية حماية البقايا الأثرية المرتبطة بتاريخ الدولة المغربية، وكذا القطع الفنية التي تساهم في جماليتها، ليتم “استبدال الظهير سنة 1945 الذي أضاف جملة من المقتضيات، خاصة ما يتعلق بالحفاظ على المآثر التاريخية والمواقع والكتابات المنقوشة والتحف الفنية والعاديات والمدن العتيقة والنماذج المعمارية الجهوية” (8).

إن التراث كأداة للتنمية يستوجب العمل سويا على إخراج ما يمكن من التوصيات الرامية إلى نفض غبار التهميش والنسيان الذي طال الموقع الأثري “إغرم أوسار”، والمحافظة عليه قدر الإمكان، وإدراجه ضمن التراث الوطني الإنساني، وهذا لن يتأتى إلا بمجهودات ومرافعات عموم الفاعلين المحليين وفعاليات المجتمع المدني، وكل الهيئات السياسية والحقوقية والثقافية، مادام العمل يتطلب التضامن والتصالح مع معالم شكلت حقبة تاريخية مهمة.

  1. إدريس أقبوش، السياسة الفرنسية بمنطقة أيت سكوكو خلال فترة الحماية الفرنسية- منشورات المقاومة. ص 39.
  2. محمد بن لحسن، كباء العنبر من عظماء زيان وأطلس البربر- ص53.
  3. الملكي المالكي، الغزو الاستعماري ومقاومته في الأطلس المتوسط (1913-1930)، ج الثاني، بحث لنيل د.
  4. عبد العزيز العلوي، “عوام”، معلمة المغرب، ج 18، ص 6215.
  5. نفس المرجع.
  6. عبد الواحد مهداوي، دليل التراث الثقافي والطبيعي بالمغرب (الدار البيضاء: منشورات مرايا)،2011 .
  7. المملكة المغربية الشريفة، ظهير ذي الحجة 1330 ه /26 نونبر 1912، الجريدة الرسمية 5 ( 29 نونبر 1912)
  8. المملكة المغربية الشريفة، ظهير 21 يوليوز 1945، الجريدة الرسمية 1715 .

(°) طالب باحث