تحت عنوان “جوانب من تاريخ زاوية الشيخ وقبيلة آيت أم البخت وتراثهما”، احتضنت مدينة زاوية الشيخ ندوة علمية تاريخية متميزة، نظمتها “الجمعية الثقافية لزاوية الشيخ” بشراكة مع “فضاء الذاكرة التاريخية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير” و”مركز أݣورا للدراسات الإعلامية والاجتماعية والسياسية”، وقد جسد اللقاء، الذي جاء ضمن فعاليات شهر التراث لسنة 2025، لحظةً نوعية في مسار توثيق الذاكرة المحلية وإبراز غنى الموروث الثقافي والتاريخي للمنطقة، مستقطبا نخبة من الباحثين والمهتمين والإعلاميين، إلى جانب حضور وازن لطلبة وتلاميذ وفاعلين من المجتمع المدني.
وشكلت الجلسة الافتتاحية مناسبة لتأكيد الأهمية البالغة التي يحظى بها التراث المحلي في سياق تعزيز الذاكرة الجماعية، حيث نوهت دة. لالة مريم الداكي، بالدور الحيوي الذي “تضطلع به مثل هذه المبادرات في صيانة الذاكرة الجماعية”، مؤكدة “ضرورة تفعيل أدوات البحث والتوثيق والرقمنة لصالح الأجيال الصاعدة”، بينما أبرز ذ. أسامة باجي، رئيس الجمعية الثقافية، من جهته أهمية “ربط التراث بالمشاريع الثقافية المستقبلية”، داعيا إلى “جعل المنطقة فضاء مفتوحا للبحث الثقافي”، بينما أكد ذ. عبد الرحيم أودمجان، عن مركز أݣورا، على أن “التنمية المجالية المستدامة لا يمكن أن تنفصل عن استحضار التاريخ المحلي بوصفه رافعة للوعي الجماعي”.
وتميزت أشغال الجلسات العلمية بتنوع مقارباتها وثراء تدخلاتها، وقد انقسمت إلى محورين أساسيين، أولهما انصب على الأبعاد التاريخية والاجتماعية والاقتصادية للمنطقة، حيث ناقش د. عبد الواحد فينيك موضوع “الماء وتنظيم المجال بزاوية الشيخ”، كاشفا عن العلاقة المعقدة بين الجغرافيا والأنظمة التقليدية لتدبير الموارد الطبيعية، فيما أبرز ذ. عبد الرحمان زهواني، الجذور الثقافية والتنظيمية لنظام “العرف في تدبير مياه السقي التقليدي”، وبعده تناول ذ. عبد الصمد الحدوشي موضوع “التراث المعماري بجبل آيت أم البخت”، كاشفا غنى العمارة الجبلية التي تختزل قرونا من الإبداع المحلي.
وفي المحور الثاني من اللقاء، والذي خصص للتراث الثقافي وسبل المحافظة عليه، قدم ذ. عبد الرحمان أوشن عرضا حول “الإكراهات التي تواجه التراث اللامادي”، مبرزا “الحاجة إلى استراتيجيات حماية تتجاوز الطابع المناسباتي”، بينما استعرض ذ. عبد الغاني السراطي، من جهته، “جهود فضاء الذاكرة في حفظ التراث الثقافي المحلي”، مشددا على “أهمية المؤسسات المتحفية في ترسيخ القيم التاريخية”، دون أن يفوت ذ. أسامة باجي، التركيز، بحسه الإعلامي والبحثي، على “العلاقة بين الإعلام والتاريخ”، مؤكدا في مداخلته على دور الصحافة المحلية في ترسيخ الهوية الثقافية.
وعلى هامش اللقاء، تم تتويج العروض العلمية بنقاش تفاعلي أفرز مجموعة من التوصيات المهمة، من بينها “ضرورة ترميم المعالم التاريخية”، و”إحداث مدارات سياحية تجمع بين الذاكرة والطبيعة”، مع الدعوة إلى “توثيق مخرجات الندوة في إصدار خاص”، وإلى “رقمنة الذاكرة المحلية وتوفير قاعدة بيانات للباحثين”، كما أوصى المشاركون ب “دعم الإنتاجات الإعلامية المهتمة بتراث المنطقة”، و”تشجيع الشباب على الانخراط في مشاريع سردية توثق للهوية المحلية”، إلى جانب اقتراح “اعتماد هذه الندوة كتقليد سنوي يربط بين الجامعة والمجتمع المدني ومختلف الفاعلين الثقافيين”.
وبينما أعرب منسقا الندوة عن طموحات متقدمة في جعل هذه المبادرة “نواة لمشروع ثقافي وعلمي مستدام”، أكد ذ. أسامة باجي أن الندوة “تمثل حلقة أولى ضمن مشروع بحثي يهدف إلى إعادة الاعتبار للتاريخ المحلي، من خلال إشراك الجامعة والإعلام والمجتمع المدني في مسار توثيقه وتثمينه”، كما حرص ذ. عبد الغاني السراضي على الإشارة إلى “أن الرهان لم يعد يقتصر على حفظ الذاكرة، بل يتعداه إلى ابتكار وسائل جديدة لنقلها للأجيال، لعل أبرزها الرقمنة والانفتاح على المؤسسات التربوية والإعلامية”، وقد اختتم اللقاء بتوزيع الشهادات التقديرية في لحظة رمزية تؤكد على إصرار الفاعلين المحليين على جعل الذاكرة الجماعية محركا للتنمية الثقافية والمجالية.