في ظهيرة الأحد 26 ماي من عام 2013، أغمض مصطفى بودلي عينيه إلى الأبد، وغادر الحياة كما عاشها بصمت الغيمة البيضاء حين تعبر السماء، وعلى خطى من رفضوا المساومة على قيمهم، تاركا وراءه قصة إنسان لم تنصفه الحياة، وإن أنصفه أصدقاء، ما زالوا إلى اليوم يتذكرونه كلما استحضروا أسماء وجوه المدينة،
كان بودلي من طينة الذين يتركون أثرا عميقا في ذاكرة من عرفهم، مثله مثل “حنظلة” الشهيد ناجي العلي، عندما ظل مسكونا بهمسات المدينة وأوجاعها، وفيا لحقه في التعبير، ورافضا لكل أشكال الاستسلام، عاش معطلا ومات معطلا، بعدما حاصرته مآسي الواقع المر ومضاضة ذوي القربى، ويصح فيه ما قاله سميح القاسم في رثاء صديقه محمود درويش: “عصافيرنا يا صديقي تطير بلا أجنحة .. وأحلامنا يا رفيقي تطير بلا مروحة”.
ولأن الحياة كثيرا ما كانت تضيق عليه، فتح مصطفى بودلي ذات يوم مقهى صغيرا في حجم دكان، ب “مركب الأرز” بخنيفرة، عله يجد فيه متنفسا أو مدخولا بسيطا يعينه على مقاومة العطالة التي حاصرته، لكن، حتى هذا المتنفس البسيط لم يسمن أو يغنِ من بطالة، فظل الرجل يصارع بأظافر الأمل يومياته القاسية، بنفس الكرامة وعزة النفس التي رافقته منذ بداياته،
بدأت رحلته من مقاعد “مدرسة البنات”، ثم ثانوية أبي القاسم الزياني، ومنها إلى جامعة محمد بن عبد الله بفاس، حيث كان من رواد مساءات “ظهر المهراز”، المشبعة بأسئلة الوعي والانتماء، لم يكن طالبا عاديا، بل فاعلا جمعويا من طراز خاص، انخرط مبكرا في المخيمات الصيفية مع جمعيات مدنية وكشفية، حيث ظل يمتح من التجربة الجمعوية شغفه وأفكاره.
وفي بحثه عن وسيلة لتشريح الواقع، وجد في المسرح فضاءه الأصيل، أسس، رفقة رفاق دربه، من أمثال سعيد زيواني، مصطفى شرقني، هشام هاشمي، عبد الرحمان العظمى، خالد الليوي، عبد الرحيم لحلو، نادي “أم الربيع الأخضر للمسرح”، وقدموا عروضا شكلت علامة في مسرح الهامش، مثل: الخيانة الزوجية، الحاج مزار، الشعوذة، والمتسول… وغيرها من العروض التي كانت تنبض بالوجع الاجتماعي وتنتصر لقضايا الناس.
ومع تصاعد الحراك الثقافي في ثمانينات القرن الماضي، انخرط بودلي في “فرقةقوس قزح للفن المسرحي” كما في تأسيس فرع “جمعية هواة المسرح”، إلى جانب أسماء تاريخية، مثل إدريس جبور، عزيز أمزيان، محمد دانيال، فاطمة بوعبيد، عبد الإله الودادي، هنية أنصار، الحسين بنصالح، نجية اجابة، عبد الحق السنتي، عبد القادر بوحاسيس، خديجة الغماري، عبد الله الإدريسي، قدموا عروضا متميزة، أبرزها “سلف لونجا” المقتبس من نص لعبد الكريم برشيد، وعرضت على خشبات مسارح متعددة.
ولأنه كان مهووسا بالثقافة كفعل تغيير، انخرط في تأسيس “جمعية الشعلة للتربية والثقافة” بخنيفرة، وظل من أبرز الفاعلين فيها، يشاغب بعطائه الساخر، ويساهم بجرأته المتفردة، كما كان ضمن اللجنة التحضيرية لجمعية “رواد الفن للعرائس”، إلى جانب الراحل سعيد أمين، وسعيد العظمى، وأحمد القرشي وآخرين ممن عرفته دار الشباب في عز زمنها الجميل والساخن.
في منتصف التسعينات، حيث كانت البلاد ترزح تحت قمع سياسي وفوارق اجتماعية صارخة، التحق مصطفى بودلي بصفوف “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”، مدفوعا بمبادئ الالتصاق بالمواطن، وبهموم العمال والطلبة والكادحين، كان محاورا صلبا، يمتلك قدرة نادرة على الجمع بين النكتة والتحليل، بين الغضب والرصانة، وبين العناد والإنصات، لم يكن خصما لأحد، بل شريكا في الحوار حتى في الخلاف.
وكان من الرعيل الأول في صفوف “الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب” بخنيفرة، حيث خاض معارك فكرية وميدانية من أجل الحق في التنظيم والشغل والكرامة، وفي سياق يئن تحت وطأة التبعية والبطالة، كان حاضرا في كل المحطات، يرفع صوته ضد التهميش، يوم 16 ماي 2013، شوهد، قبل عشرة أيام فقط من رحيله، في مسيرة المعطلين لتخليد الذكرى 20 لوفاة المعطل مصطفى حمزاوي بمخفر شرطة خنيفرة… وكأنّه وقتها يكتب وداعه الأخير.
كتب عنه الباحث والفيلسوف الفقيد عبد الإله حبيبي ذات يوم على صفحته الفايسبوكية قائلا:
“كان مصطفى بودلي من الأصدقاء المقربين جدا، فنانا بالطبيعة، مناضلا بالفطرة، عنيدا في المبدأ، ورافضا لكل المواقف الانهزامية… كان يقاوم الحياة ومكر القدر وحيدا، رأيته ذات يوم بمقهى قرب القنطرة، وقال لي: هذا مكاني الثابت، صفعني أثر التعب على وجهه، وقلت في نفسي: إنه يتألم بصمت ويداري أيامه بكبرياء“، وأضاف: “كان حلم مصطفى بسيطا… لكنه لم يتحقق، ليسكنه المرض ويعجل بغيابه الأبدي، لقد رحل قبل أن يقطف ثمار حلمه، مثل كثيرين من جيله.”