
حرب الدار البيضاء على احتلال الملك العمومي .. سكان بلا مأوى، تجار بلا مورد، وتلال من النفايات
بين الأرصفة المحتلة، الأزقة المختنقة، والمرافق العمومية التي تحولت إلى فضاءات عشوائية، تبرز ظاهرة احتلال الملك العمومي كواحدة من أكثر التحديات الحضرية تعقيدا في مدينة الدار البيضاء.
ورغم انتشار هذه الظاهرة في جميع أحياء المدينة – إذ لا تكاد تخلو منطقة منها، سواء في الأحياء الشعبية أو حتى الراقية- فإن أحدا لم ينتبه لها بما يكفي، رغم وضوحها للعيان وتحدي المحتلين السافر للقانون وهم يبنون «حدائق» عشوائية، أو يضيفون غرفا ومطابخ وسط الأرصفة وفوق أسطح البنايات، دون أي تراخيص.
كما يقدم البعض، خصوصا من أصحاب المقاهي، على احتلال مساحات واسعة من الأرصفة، تفوق أحيانا خمسة أمتار، متجاوزين الحد المسموح به، مما يعرض الراجلين لخطر الدهس من طرف السيارات أو الدراجات النارية، وقد سُجّلت في هذا الصدد حوادث مميتة راح ضحيتها مواطنون لم يجدوا رصيفا يمشون عليه، لأن أحد أصحاب المقاهي قرر ضمه إلى مساحة مقهاه، دون احترام للقانون.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: أين كانت أعين السلطات المحلية في المدينة قبل أن تستفحل الظاهرة إلى هذا الحد واعتاد أصحاب هذه الزيادات على مساكنهم، بل منهم من ليس له بديلا عنها؟
مع استضافة بلادنا لكان 2025 ومونديال 2030 نهضت أخيرا الدار البيضاء لمحاربة ما يتوسطها من عشوائية ولتباشر السلطات بها حملات واسعة لتحرير الملك العمومي تنفيذا لتعليمات وزارة الداخلية، وذلك منذ أسابيع، وهي الحملة التي شملت عددا من العمالات والأقاليم، من بينها الحي المحمدي، النواصر، بنسليمان، الصخور السوداء، عين الشق، الحي الحسني، وغيرها من المناطق والأحياء، وذلك تفعيلا للتوجيهات الصادرة عن وزارة الداخلية الرامية إلى الحد من الترامي العشوائي على الفضاءات العمومية.
مظاهر احتلال الأرصفة والمساحات العامة، سواء من طرف أصحاب المحلات التجارية أو المقاهي والمطاعم التي تجاوزت حدود الاستغلال المرخص به أو أصحاب الطوابق السفلية بأحياء مثل حي عادل أو حي لمياء أو مشروع الحسن الثاني أو دار لمان أو عين الشق والحي الحسني وغيرها، استفحلت لتصبح قاعدة وليس استثناء، مما دفع إلى تكثيف الحملات باستخدام الجرافات والشاحنات، وتحت إشراف مباشر من السلطات المحلية وبدعم من الأمن والقوات المساعدة، وذلك في محاولة للقطع مع هذه الظاهرة من جذورها ومعالجة التجاوزات التي كانت تتم تحت الأعين دون تدخلات تذكر، واستمرت سنوات وسنوات دون رقيب أو حسيب. وبداية من الأسبوع الحالي باشرت السلطات حملة لتحرير الملك العمومي بحي لمياء بالصخور السوداء وقبله بحي عادل، حيث أشرفت السلطات المحلية على هدم الحدائق العشوائية والغرف المشيدة وسط الأرصفة وبجانب العمارات بهدف استعادة الفضاءات العامة من الاحتلال العشوائي.
في حي لمياء، قامت السلطات المحلية بحملات واسعة لإزالة التعديات على الأرصفة والشوارع، حيث تم تفكيك العديد من البنيات العشوائية التي أقامها بعض السكان والتجار دون ترخيص، شملت هذه التعديات بناء غرف ومطابخ على الأرصفة، وتحويل الشوارع إلى مساكن، مما أدى إلى اختناق مروري وعرقلة حركة الراجلين، وقد استخدمت الجرافات في هذه العمليات تحت إشراف مباشر من رجال السلطة المحلية وعناصر الأمن والقوات المساعدة، أما في حي عادل، فقد قادت السلطات حملة لتحرير الملك العمومي، حيث تم تفكيك العديد من المرافق غير المرخصة المقامة على الأرصفة، شملت هذه الحملة إزالة الهياكل المعدنية والمظلات التي تعيق حركة المرور وتشوه المنظر العام، وكذا الحدائق والزيادات العشوائية، بعض السكان، الذين طالما اشتكوا من هذه التعديات، أبرزوا استحسانهم لهذه الحملة فيما عبر بعض المستهدفين عن عدم رضاهم باعتبار أن الكثير منهم خصوصا أصحاب الغرف العشوائية على جانب العمارات ليس لهم مساكن أخرى غيرها، إذ منهم من يكتري منزله الرئيسي ويعيش في هذه الغرف ومنهم من يعيش فيه منذ البداية، وهو ما يسلط الضوء على البعد الاجتماعي المعقد لظاهرة احتلال الملك العمومي، حيث تتداخل الحاجة الاقتصادية مع غياب البدائل السكنية، في مدينة تعاني أصلا من ضغط عمراني واختلالات في التخطيط الحضري أما بمحيط سوق سيدي مومن فقد تم هدم الزيادات والمحلات التجارية التي اعتبرت السلطات أنها تحتل الملك العمومي، وعبر أصحاب هذه المحلات عن غضبهم لكون السلطات هدمت مصادر رزقهم دون إعطائهم المهلة الكافية أو البديل لمحلاتهم التي تعتبر مصدر رزقهم الوحيد معبرين عن استنكارهم لما يتعرضون له من حيف!
ورغم تفهم عدد من المواطنين لمبررات التدخل، إلا أن أصواتا أخرى دعت إلى مقاربة أكثر توازنا تراعي البعد الإنساني، من خلال إمهال التجار أو السكان المعنيين، أو توفير حلول بديلة قبل الشروع في الهدم، خاصة في الحالات التي تمثل فيها البنايات العشوائية مصدرا وحيدا للرزق أو ملجأً فعليا لأسر بأكملها، أسر وجدت نفسها دون مأوى بعد سنوات من اتخاذ الأرصفة مسكنا غير قانوني، لكن ما يثير الانتباه الآن بعد سلسلة التدخلات كميات النفايات الهامدة التي خلفتها وراءها الجرافات، حيث امتلأت جنبات الأزقة وأطراف الشوارع بالأكياس المملوءة بقطع الإسمنت، وبقايا الهياكل الحديدية، والخشب، ما خلق وضعا بيئيا مقلقا زاد من معاناة الساكنة مع تراكم الأزبال والروائح الكريهة، خصوصا بحي لمياء وحي عادل اللذين لا تزال أكوام من الأكياس المملوءة بالنفايات الهامدة تستوطن المكان إلى حدود أمس الثلاثاء، ورغم أن الحملة نُفذت تحت إشراف مباشر للسلطات، إلا أن الملاحظ هو غياب تنسيق لاحق مع مصالح النظافة والتطهير مما ساهم في تأزيم المشهد، وهو ما دفع العديد من السكان إلى المطالبة باستكمال هذه التدخلات بعمليات تنظيف عاجلة، وترميم للأرصفة المتضررة، حتى لا تتحول الحملة من حل للمشكل إلى مصدر لمشاكل جديدة، وفي هذا الصدد قال أحد سكان حي لمياء: «لقد كنا ننتظر هذه الحملة منذ سنوات، لكن نتمنى أن تستكمل بالتنظيف والترميم…»، فيما اعتبر أحد السكان بالعمارات المجاورة لقيسارية الحي المحمدي في تصريح للجريدة أن الحملة تمر في ظروف عادية مؤكدا أن السلطات أعلمتهم قبل أسبوع بإخلاء الحدائق العشوائية التي بنوها كامتداد لشققهم السفلية، وهي الشقق التي لا تتعدى مساحتها 47 مترا، وأبرز آخر أنه «مادامت الحملة تشمل الجميع دون استثناء فلا يمكن إلا أن نمتثل للقانون»، مشددا على أن «السلطات بمقاطعة الحي المحمدي عملت على إخلاء المكان من النفايات الهامدة تحت طلب السكان» وطالب، «ببناء جدار يفصل شققهم عن الشارع» موردا أن «ضيق مساحة الشقق لا يترك لهم مجالا حتى لنشر ملابسهم على اعتبار أن هذه العمارات بنيت نتيجة لقرارات السلطات الفرنسية إبان الاستعمار كتجربة سكن عمودي أولى في المغرب، ولم يراع فيها حين بنائها الاهتمام بمساحتها أو أسطحها، بل هي عبارة عن شقق ضيقة اضطر معه السكان خصوصا سكان الطوابق الأرضية إلى البناء بجنباتها.».
ويأمل المواطنون اليوم أن تتبع هذه الخطوة بإجراءات دائمة تضمن حماية الملك العمومي، وتحقيق التوازن بين محاربة الفوضى ومراعاة كرامة الساكنة والمحافظة على مورد رزق التجار عبر حلول جذرية ومستدامة.
وتبقى هذه الحملة جزءا من مجهودات أوسع تُبذل على مستوى العاصمة الاقتصادية لاسترجاع النظام داخل المجال الحضري، لكن نجاحها مرهون بمدى قدرتها على المزج بين الحزم في التطبيق، والعدالة الاجتماعية في المعالجة.
خديجة مشتري