“مسيرة الماء” بمنطقة “إبغلان”، بإقليم خنيفرة، تفضح المستور وتكشف عجز المسؤولين عن حل الأزمات القروية

0
أحمد بيضي
في مشهد يلخص معاناة العالم القروي وسط صمت مؤسساتي عاجز عن تدبير الأزمات، خرج حشد من سكان وفلاحي دوار “ابغلان”، التابع لجماعة كروشن بإقليم خنيفرة، يوم الخميس 3 يوليوز 2025، في مسيرة احتجاجية قطعت المسافات الطويلة على الأقدام تحت لهيب شمس حارقة، رافعين أعلام الوطن وحناجرهم تردد صرخات العطش والتذمر، ولم تكن هذه المسيرة، التي شارك فيها حوالي مائتي شخص، من نساء ورجال، مجرد تعبير عن مطلب بسيط، بل كانت انتفاضة على واقع التهميش والعطش والإقصاء، وعلى ما وصفوه ب “الاستحواذ غير المشروع” على حقهم، وحق مزارعهم ومواشيهم، في الماء.
وبينما أفراد “علية القوم” يستمتعون ببرودة المسابح ورفاهية التكييف في عز حرارة الصيف، كان سكان هذا الدوار يعبرون بأقدامهم المتعبة وصبرهم المتآكل حوالي ثلاثين كيلومترا في اتجاه عمالة خنيفرة، بعد أن طُرح بينهم اقتراح التوجه نحو مقر ولاية جهة بني ملال خنيفرة، جاء ذلك احتجاجا على ما أسموه “نهب مياه السقي” من طرف ساكنة دوار “أروكو” المجاور لدوارهم، والمتموقع أعلى المجرى المائي المشترك، وهو ما تسبب في إلحاق أضرار بالغة بمحاصيلهم الزراعية التي تشكل عصب حياتهم الاقتصادية والمعيشية كباقي فلاحي المنطقة الذين لا مورد لهم سوى ما يكسبونه من الفلاحة وتربية المواشي.
ووفق مصادر من “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان” التي ساندت المحتجين، فإن جذور هذا الصراع تعود إلى خلاف قبلي مزمن، ظل عالقا دون حل، لا من طرف السلطات المحلية ولا من الجماعة الترابية التي يُتهم بعضها بالتقاعس أو التواطؤ في التعامل مع الوضع، تاركة المجال مفتوحا أمام ممارسات استغلالية للوضع المائي، واتهم المحتجون بعض سكان “أروكو” ببناء أحواض خاصة وتركيب أنابيب لشفط المياه بشكل مفرط نحو أراضيهم، ما جعل سكان “ابغلان”، المتمركزين في أسفل المجرى، يعانون من العطش وخراب أراضيهم، في ظل غياب أي تدخل فعال لحماية توازن الجوار القبلي.
ولم يخل المشهد الاحتجاجي من مظاهر التوتر والعنف، إذ عرف تدخلا غير متزن من قائد المنطقة الذي تصدى للمحتجين بأسلوب استفزازي وُصف بالتعسفي، حيث تم تداول مقاطع على مواقع التواصل الاجتماعي توثق لمحاولاته قمع المسيرة، واعتدائه جسديا على نساء شاركن في الاحتجاج، بل وتكسيره هاتف إحداهن، وعدم احترامه لرمزية العلم الوطني الذي كان حاضرا بين أيدي المتظاهرين، ورغم هذه المضايقات، أصر المشاركون على الاستمرار في مسيرتهم، متحدين المسالك الغابوية الوعرة والحواجز الأمنية، على أمل التمكن من الوصول إلى النقطة التي رسموها لمعركتهم العادلة.
وفي خضم حالة الاستنفار المشدد الذي حركته المسيرة السكانية السلمية، بمشاركة عناصر الدرك الملكي والقوات المساعدة والسلطات المحلية، اضطر ممثلون عن السلطات الإقليمية، في شخص الكاتب العام لعمالة خنيفرة ورئيس قسم الشؤون الداخلية، إلى التنقل بسرعة نحو مسيرة المحتجين، وفتح حوار مباشر معهم في محطات متفرقة من المسيرة، في محاولة لاحتواء غضبهم، حيث أسفر هذا الحوار عن التوافق على تشكيل لجنة طارئة للانتقال إلى عين المكان، ومعاينة الوضع عن كثب وإعداد تقرير مفصل، تمهيدا لإيجاد حلول مناسبة وتوافقية تعيد التوازن إلى تقاسم مياه الري، وتضع حدا لحالة الاحتقان القائمة.
وعلى هامش التطمينات، لم يخف بعض المحتجين تلويحهم بالعودة إلى الاحتجاج في حال غياب علاجات جذرية للأزمة القائمة، وحلول تعيد لهم الحق في الماء وتضمن الحد الأدنى من شروط الكرامة والاستقرار والعيش الكريم، كما لم يفت بعضهم التعبير بمرارة عن إحساسهم العميق بالإقصاء، مشيرين إلى أن دوارهم لا يزال يرزح تحت نير التهميش والعزلة، وإن ما حدث في دوار “ابغلان” هو تعبير صارخ عن خلل بنيوي في تدبير الموارد الطبيعية، وعن فقدان الثقة في مؤسسات من المفترض أن تصون كرامة المواطنين وتحمي حسن الجوار القبلي بعيدا عن الخلافات والنزاعات المهددة للمنطقة بالتوتر.
ويبدو أن الصراع بين دواري “إبغلان” و”أروكو” لا ينحصر فقط في أزمة تقاسم المياه، بل يتغلغل في عمق تعقيدات اجتماعية وسياسية تتشابك فيها حسابات النفوذ وتجار الانتخابات، فإلى جانب المعاناة المعيشية والبيئية التي دفعت سكان “إبغلان” إلى الخروج في مسيرة احتجاجية، تحدث البعض عن مشروع للصرف الصحي كان تم تشييده قبل سنوات بدوار “أروكو”، على ارتفاع يفوق مستوى دوار “إبغلان”، ما جعله يمر وسط هذا الأخير مخلفًا أضرارا بيئية، وبحسب عدد من المتتبعين، فإن المشروع جاء نتيجة حسابات سياسوية بحتة، افتقدت لأي دراسة ميدانية أو تقييم للآثار المحتملة، وهدفت أساسا إلى استمالة أصوات انتخابية.
وفي سياق متصل، فات أن أثار قرار عزل عضو جماعي ينتمي لدوار “إبغلان” من إحدى اللجان المنتخبة مزيدا من التوتر والشكوك، حيث تمت الإشارة إلى وجود تصفية حسابات سياسية تقف وراء هذا القرار، واتهام منتخب من دوار “أروكو” بالضلوع فيه، في محاولة لقطع الطريق أمام أي صوت قد يدافع عن مصالح السكان أو يكشف اختلالات التسيير المحلي، وتبقى الحصيلة ثقيلة: ساكنة عطشى، أراض جافة، وتوتر قبلي لم يقبل به أحد، ومجتمع قروي وجد نفسه محاصرا بين مطرقة العطش وسندان التلاعبات السياسوية، في غياب إرادة حقيقية لتطبيق مبدأ العدالة المجالية وتدبير الأزمات والتوترات القروية.
error: